الوليد سيد يكتب: المؤسسة العسكرية والتحول السياسي المُتعثر

تكتسب المؤسسة العسكرية في السودان أهمية كبيرة في النظام السياسي وفي الحياة السياسية عموما، وتعود هذه المكانة لاعتبارات تاريخية اكتسبها الجيش منذ بُعيد الاستقلال ، وتحديداً في العام ١٩٥٨ عندما انقلبت المؤسسة العسكرية علي النظام الديمقراطي ، فالملاحظ أن غالبية الرؤساء الذين حكموا السودان منذ الاستقلال وحتي اليوم من  أبناء المؤسسة العسكرية ( عبود، نميري، البشير، البرهان)، إلا أنه بعد  التحول السياسي الذي شهده السودان في ١١ ابريل ٢٠١٩ والذي أفضى إلى سقوط نظام الانقاذ، لعبت المؤسسة العسكرية من خلال المجلس العسكري  دوراً رئيسياً في التأثير على المشهد السياسي أثناء المرحلة الانتقالية، ويرنو الي ما بعدها، فبعد سلسلة من الإجراءات والتفاهمات التي قام بها المجلس العسكري لمسايرة الأحداث، وما نتج عن الحراك السياسي بعد الثورة، وافق المجلس العسكري علي تقاسم السلطة مع المدنيين عبر مجلس سيادي مشترك، الأمر الذي أدخل السودان  في مرحلة من التجاذبات والاستقطابات السياسية بين المؤسسة العسكرية والمدنيين، خاصة مع  عدم وجود أي مؤشرات تؤكد استعداد العسكر للتخلي عن دورهم المحوري في الحياة السياسية، وعدم  قدرة أي طرف في الساحة السياسية  لمواجهة الدور المتزايد للجيش في السياسة.

الصورة التقليدية النمطية لتدخل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية هي الانقلاب العسكري وبعدها هيمنة المؤسسة علي الساحة السياسية بصورة مباشرة كما حدث في عهد عبود أو بصناعة تنظيم سياسي كما فعل الرئيس النميري عبر الاتحاد الاشتراكي أو بدعم حزبي واضح من تيار سياسي كما هو حال الانقاذ عبر الحركة الاسلامية، إلا أنه في التدخل الاخير بعد الثورة لا تسعي المؤسسة العسكرية لأخذ أي من النماذج الثلاث كنموذج، لأن  الحالة الاخيرة حالة مشتركة مع المدنيين وبها استقطاب حاد وعلي ذلك فهي تسعي لترسيخ اقدامها عبر نموذج جديد وهو (التحول السياسي) بمعني أن يتحول الحال مما عليه كائن إلى ما سيكون عليه الحال مستقبلاً، وهو اشبه بحالات كثيرة في العالم وخاصة العالم العربي بيد أن الاختلاف يأتي من أن الحالات الاخري تأتي عبر انقلاب عسكري واضح ومن ثم تعمل علي تأطير (التحول السياسي) وحالة السودان اليوم هي أن المؤسسة العسكرية وجدت نفسها في شراكة مع المدنيين وتسعي لتقنين (التحول السياسي) لصالحها، فعلي الرغم من التزامها  الموقع في يوليو 2019، والذي نتج عنه تشكيل مجلس السيادة، وانتخابات مقررة في أواخر عام 2022، وعلى الرغم من هذه التعهدات، فإن اعضاء المؤسسة العسكرية ينخرطون في حملة خفية لترسيخ نفوذهم السياسي والاقتصادي على السودان خلال  المرحلة الانتقالية وتهميش حتي المعارضة داخل صفوف القوات المسلحة السودانية، مما قد يعرض المسار الديمقراطي للسودان للخطر. ويظهر ذلك في الاتي:

اولاً: السُلطة السياسية:

علي الرغم من التسوية البراغماتية مع قوى الحرية والتغيي، فإن القوات المسلحة السودانية في وضع يجعلها تحافظ على هيمنتها السياسية والاقتصادية في المستقبل المنظور. حيث ضمنت اتفاقية الانتقال الدور المهيمن للقوات المسلحة في الحياة السياسية لمدة 21 شهراً ( يُمكن تجديدها وفقاً للأوضاع السياسية) وسمحت للمجلس العسكري الانتقالي بتعيين وزيري  الداخلية والدفاع. كما يدعم الاتفاق قيادة القوات المسلحة في مبادرات إصلاح قطاع الأمن، ما يُحرم السلطات المدنية من التأثير على حل أحد أكثر التحديات السياسية إلحاحًا في السودان بجانب الحصانات وعدم الملاحقات القضائية لاعضاء المجلس العسكري.

ثانياً: الوضع الاقتصادي:

جدال كبير يدور حول الوضع الاقتصادي المتميز للجيش وتاثير المؤسسة العسكرية في الاقتصاد ودور الشركات التابعة لها في العمل الاقتصادي، فنتيجةً لثلاثة عقود من روابط الرعاية بين الدائرة المقربة من نظام الانقاذ  والقوات المسلحة السودانية، فإن المؤسسة العسكرية السودانية تستحوذ علي رصيد اقتصادي هائل، وتسعى إلى الحفاظ عليه وتعزيزه. إلى ذلك مازال ثمة غموض حول علاقة قوات الدعم السريع بعائدات الذهب، كما أن هنالك تساؤلات عديدة حول توجيه 60 في المئة على الأقل من ميزانية الدولة السودانية إلى القوات المسلحة والأمن في البلاد.

ثالثاً: الإنقسامات المجتمعية:

بلاشك استفادت المؤسسة العسكرية من الانقسامات المجتمعية في البلاد، فبعد الثورة ظهر تياران رئيسيان، هما قوي الحرية والتغيير من جهة والاسلاميين بشكل عام من جهة اخري، وبدأ الصراع بينهما ياخذ اشكالاً متعددة سياسية واعلامية  وعبر تنظيم المواكب والتظاهرات والمسيرات والاعتصامات السلمية، هذا الانقسام يُشكل ارضية خصبة للمؤسسة العسكرية لزيادة نفوذها نحو التحول السياسي حيث يتيح ذلك الوضع  للقوات المسلحة السودانية بتأطير نفسها كقوة استقرار تستحق موقعًا طويل الأمد من النفوذ السياسي.

رابعاً: البُعد الدولي:

 تسعي المؤسسة العسكرية للحصول على دعم دولي لتعزيز موقفها نحو التحول السياسي، فعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تحافظان على علاقات وثيقة مع قوات الدعم السريع، إلا أن مشاركة البرهان السابقة في نشر القوات السودانية في التدخل العسكري الذي تقوده السعودية في اليمن سمحت له بالحفاظ على علاقات وثيقة مع القادة في كلا البلدين. وتسعي المؤسسة العسكرية لكسب الدولتين لصالح مشروعها السياسي.

بالاضافة الي ذلك فإن  المؤسسة العسكرية السودانية تعمل على إملاء أجندة السياسة الخارجية للخرطوم من جانب واحد. ففي كثير من أنحاء العالم العربي، كان يُنظر إلى تطبيع السودان مع إسرائيل على أنه إشارة على استعداد القوات المسلحة السودانية لتوجيه السياسة الخارجية السودانية بالإكراه في الاتجاه المفضل لها. حيث كانت الهوة بين الرأي العام السوداني، الذي أيد بقوة حق تقرير المصير للفلسطينيين، وتعاطي المؤسسة العسكرية مع إسرائيل امراً مدهشًا بشكل خاص. حيث وافق السودان في أكتوبر 2020 على تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. وجاء هذا القرار في أعقاب قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب شطب السودان من قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب، وزاد هذا الأمر حدّة الانقسامات بين السلطات العسكرية والمدنية في السودان. حيث نفذه وأيّده رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، الذي التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فبراير 2020. جميع تلك الاشارات تدل علي ان المؤسسة العسكرية تسعي لرسم خط سياسي لها عن طريق البُعد الدولي من خلال تسويقها الخارجي وبناء التحالفات والمحاور التي تدعم مشروعها نحو التحول السياسي.

خُلاصة القول أنه وعلى الرغم من أن الجميع متفق خلال المرحلة الانتقالية علي المُضي نحو التحول الديمقراطي، إلا أنه بات جلياً أن القوات المسلحة السودانية استفادت من بنود التسوية السياسية في السودان لتعظيم نفوذها على المدى القصير واستخدمت مزيجاً من الإكراه والأحادية الدبلوماسية لتعزيز نفوذها على المدى الطويل للوصول (للتحول السياسي) الذي تنشده وإن كان مُتعثرا بعض الشئ. غير أن ذلك كله سيعتمد على قدرة القوات المسلحة السودانية على توحيد الفصائل العسكرية والأجهزة الأمنية في السودان خلف مشروعها خاصة بعد اتفاق جوبا للسلام وإنخراط الحركات المسلحة في الحكم، بجانب الحفاظ على دورها المهيمن على الاقتصاد السوداني ومواصلة فشل المدنيين في تقديم رؤية واضحة نحو التحول الديمقراطي.

Related posts